تمر المنطقة العربية والإسلامية بالعديد من الأحداث المهمة، والتي تؤثر على مستقبل المنطقة. ومن تلك الأحداث حالة الصراع الداخلي، كالتي تحدث في العراق والسودان والصومال واليمن. وكل حدث من تلك الأحداث له ظروفه الخاصة وأسبابه المحلية، وكذلك أسبابة الإقليمية والدولية. ولكن كل هذه الأحداث تشترك معا في ملمح مهم، وهي أنها حالات تفكك داخلي. وهناك حالات تتصاعد بصورة قد تؤدي إلى تقسيم الدولة، رغم التباين الحادث في مدى احتمال الوصول إلى مرحلة تفكيك الدولة من حالة إلى أخرى.
وإذا نظرنا إلى تاريخ المنطقة العربية والإسلامية في القرن والنصف الأخير. سنجد أن المنطقة قد تعرضت إلى عملية تفكيك منظمة من قبل القوى الاستعمارية الغربية. مما أدى إلى إسقاط الدولة الإسلامية الواحدة، وبناء الدول القطرية بدلا منها. وقد تم تفكيك الأمة ودولتها بصورة تعرقل أي محاولة لتوحيد الأمة مرة أخرى. وظهر أن تقسيم الأمة تم بصورة تفتت القوميات والأعراق، وتفتت مناطق الثروة، مما أدى إلى خلق نزاعات على الحدود، ونزاعات بين القوميات أو الطوائف. فقامت الدولة القطرية في البلاد العربية والإسلامية، وهي تحمل بذور الصراع الداخلي. ولم تستطع الدولة القطرية تحقيق أي استقلال حقيقي عن القوى الغربية المهيمنة، حتى بات تاريخ المنطقة يشهد مراحل من الاستقلال النسبي المؤقت، تعقبه مراحل من الهيمنة الغربية الواضحة، حتى وصلنا إلى القرن الحادي والعشرين، حيث نشهد مرحلة للهيمنة الغربية الكاملة، على مختلف الدول القطرية في المنطقة. ومع فشل الدولة القطرية في تحقيق الاستقلال، نجد أن تلك الدول فشلت أيضا في تحقيق التماسك للجماعة الوطنية التي تحكمها، أي المجتمع، بصورة جعلت المجتمع مفكك من داخله، حتى وأن ظهر متماسكا في مراحل معينة. وقد ظهر في بعض التجارب، أن المجتمع الذي ظهر متماسكا، وربما متجانسا في مراحل معينة، لم يكن في الواقع متماسكا، بقدر ما كان المجتمع واقع تحت السيطرة الكاملة للدولة المستبدة، بصورة أخفت واقع المجتمع من داخله، ثم عندما خفت قبضة الدولة، أو سقطت، ظهرت الحالة المفككة للمجتمع.
ولكن ما تغير مع بداية القرن الحادي والعشرين، كان التدخل الخارجي الواضح، والضعف العام للدول، مما أحدث نوعا من الحراك الداخلي السلبي في العديد من المجتمعات، فظهرت حالة التفكك الداخلي بدرجات مختلفة في العديد من الدول، والتي وصلت لحد يقترب من الحرب الأهلية في بعضها. وهنا ظهر ضعف الجماعات الوطنية القطرية، وعدم قدرتها على التحول إلى جماعة متماسكة وقوية. مما يعني ضمنا، أن المجتمعات لم تتشكل كوحدات قوية ومتماسكة ومستقلة. وبنفس المعنى سنجد أن الدولة القطرية قد فشلت في تحقيق كيان حقيقي لها على الأرض. فالدولة القطرية تقوم على أساس أنها دولة تعبر عن قطر معين، وقومية خاصة، ومجتمع بعينه، يقع داخل حدود معترف بها. ولكن الدول القطرية التي حلت محل الاستعمار العسكري المباشر، فشلت في تأسيس كيانها المستقل المتماسك، وبالتالي لم تتحول مجتمعاتها إلى كيانات قوية ومتماسكة. ومع التدخل الخارجي، والذي لعب على أوتار التنوع الداخلي، ظهر أن أوضاع المجتمعات الداخلية قابلة للانفجار.
نخلص من هذا، أن تفكيك الأمة من خلال إقامة الدول القطرية، لم ينتج عنه قيام كيانات اجتماعية مستقلة، بل أدى إلى فشل مشروع الدولة القطرية، وفشل مشروع إقامة مجتمعات قطرية مستقلة. وأصبح رد الفعل المجتمعي تجاه تفكيك الأمة، يتجه نحو المزيد من التفكك الداخلي. ورغم أن الأمة تظل متشوقة لعودة وحدتها من جديد، إلا أن المكونات الداخلية لأي مجتمع، لم تجد في الدولة القطرية إطارا يوحدها مع بقية مكونات المجتمع. فالدولة القطرية لم توحد مجتمعاتها، بل قسمت تلك المجتمعات. وبعد أن كانت الدولة القطرية مشروعا لتفكيك الأمة، أصبحت مشروعا لتفكيك المجتمعات نفسها. فالدولة القطرية لم تكن تعبيرا عن وجود مجتمعات مستقلة ومتباعدة، ولم تقم تلك الدولة بسبب رغبة جماهيرية للاستقلال عن الأمة الواحدة. بل قامت الدول القطرية كمشروع استعماري فرض على المجتمعات، حتى باتت المجتمعات تنفر منه. كما أن الدولة القطرية لم تملك إطارا أو مشروعا أو نظاما يوحد المجتمع الذي تحكمه، بل كانت في غالبها دول مستبدة تنفرد فيها نخبة بالحكم. كما أن الدولة القطرية لم تحقق للمجتمع استقلاله، ولم تستطع الدفاع عنه، بل كانت البوابة التي عاد منها الاستعمار. لكل هذا فشلت الدولة القطرية، وتحولت في الواقع إلى سبب رئيس في تفكيك المجتمعات، أي تفكيك الأمة المفككة.
قصدنا من هذا التأكيد على أن ما نشهده يكشف عن دخول المنطقة في مرحلة التفكك الداخلي الذاتي، والذي يتأثر بالعوامل الخارجية، ولكنه يعبر عن وجود عوامل داخلية قوية تؤدي إلى حالة التفكك. مما يعني أن المنطقة مقبلة على مرحل من مراحل الصراعات الداخلية. وهنا سوف يتضاءل دور الدولة القطرية تدريجيا، وتصبح بالفعل دولة فاشلة. ويبدو أن مسار التطور التاريخي للأمة، يشهد نهاية مرحلة الدولة القطرية، في صورة تفكك مجتمع تلك الدولة، مما ينهي أي دور لها، بل ينهي معنى وجودها. فيصبح الانفجار الداخلي في المجتمعات، ثورة تدريجية على الدولة القطرية، وعلى نموذجها الغربي الذي فرض على الأمة، أو يصبح هذا الانفجار هو النتيجة الحتمية لفشل الدولة القطرية، وأيضا النتيجة الحتمية لفرض نموذج الدولة القطرية على الأمة، والنتيجة الحتمية لتفكيك الأمة. وكأن تفكيك الأمة المفككة، هو مرحلة تسبق استعادة الأمة لوحدتها.
[justify]