عليُّ بنُ المأمون العباسي – أميرٌ وابنُ خليفة – كان يسكنُ قصراً فخماً ، وعندهُ الدنيا مبذولةٌ ميسَّرةٌ ، فأطلَّ ذات يومٍ منْ شرفةِ القصرِ ، فرأى عاملاً يكدحُ طِيلةَ النهارِ ، فإذا أضحى النهارُ توضَّأ وصلَّى ركعتين على شاطئ دِجلة ، فإذا اقترب الغروبُ ذهب إلى أهلِه ، فدعاهُ يوماً من الأيامِ فسألهُ فأخبره أن له زوجةً وأختين وأُمّاً يكدحُ عليهنَّ ، وأنه لا قوت لهُ ولا دخل إلا ما يتكسبُه من السوقِ ، وأنه يصومُ كلَّ يومٍ ويُفطرُ مع الغروبِ على ما يحصلُ ، قال : فهلْ تشكو منْ شيءٍ ؟ قال : لا والحمدُ للهِ ربِّ العالمين . فترك القصر ، وترك الإمارة ، وهام على وجههِ ، ووُجد ميتاً بعد سنواتٍ عديدةٍ وكان يعملُ في الخشب جهة خرسان ؛ لأنهُ وجد السعادة في عملِه هذا ، ولم يجدْها في القصرِ ، ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ﴾ .
يذكِّرني هذه بقصةِ أصحاب الكهفِ ، الذين كانوا في القصور مع الملكِ ، فوجدُوا الضيقَ ، ووجدوا التشتُّتَ ، ووجدوا الاضطرابَ ؛ لأنَّ الكفر يسكنُ القصر ، فذهبوا ، وقال قائلُهم : ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً ﴾ .
لبيتٌ تخفقُ الأرياحُ فيهِ
أحبُّ إليَّ مِنْ قصْرٍ منيفِ
سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ ...
والمعنى : أن المحلَّ الضيَّق مع الحبِّ والإيمانِ ، ومع المودَّةِ يتَّسعُ ويتحمَّلُ الكثير ، ((جفانُنا لضيوفِ الدار أجفانُ )) .